إن الأمة التي لا تقرأ تاريخها ولا تستفيد منه في حاضرها ومستقبلها لهي أمة مقطوعة منبتة، فالماضي ليس مفتاحاً لفهم الحاضر فحسب، بل هو من أسس إعادة صياغة الحاضر، ومقولة إن التاريخ يعيد نفسه ليست خطأ من كل الوجوه، وقد استخدم القرآن الكريم قصص الأمم السابقة للتأثير في نفوس الناس، أو للتأثير في نفوس الذين لم تنتكس فطرتهم، قال الله تعالى: {ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَآئِمٌ وَحَصِيدٌ} [(100) سورة هود]. ولو أن المسلمين في هذا العصر استوعبوا دروس الماضي لما أخطأوا في كثير من الأمور.
يقول المؤرخ ابن الأثير: "وأنه لا يحدث أمر إلا وقد تقدم هو أو نظيره، فيزداد الإنسان بذلك عقلاً ويصبح لأن يُقتدى به أهلاً".
وأمرنا القران بذلك أمرا لمعرفة السنن الالاهية
إن فوائد وثمرات دراسة التاريخ والقراءة في كتب المؤرخين الموثوقين كثيرة جداً، فمن ذلك:
معرفة السنن الربانية، قال الله تعالى: {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِينَ} [(137) سورة آل عمران].
التاريخ يحوي من الحوادث المتشابهة والمواقف المتماثلة ما يساعد على كشف هذه السنن التي هي غاية في الدقة والعدل والثبات.
فمن خلال دراسة التاريخ يعلم الإنسان أن الحاضر الذي يعيشه إذا كان فيه ما يتصور أنه مخالف لسنة الله الشرعية، فإنه غير مستثنى من السنة الربانية، بل هو جزء منها، ولكن للسنة الربانية أجلاً ووقتاً محدداً، فمن السنن الربانية ما له علاقة بتاريخ الأمم والدول والشعوب، وعلى سبيل المثال:
- سوء عاقبة المكذبين: الذين يكذبون بآيات الله ورسله ويظلمون ويعيثون في الأرض فساداً هؤلاء وعدهم الله بسوء العاقبة، وهذه سنة ربانية ثابتة، قال الله تعالى: {وَقَوْمَ نُوحٍ لَّمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا* وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا* وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا} [(37-39) سورة الفرقان].
- ومن السنن: أن البشر يتحملون مسؤوليتهم في اتباع الخير أو الشر، فإما أن يرتقوا وإما أن ينحطّوا وقد منحهم الله الحرية والاختيار، {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [(11) سورة الرعد]، قال الله تعالى: {قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [(38) سورة البقرة].
- ومن السنن: مداولة الأيام بين الناس من شدة إلى رخاء ومن رخاء إلى شدة، {إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [(140) سورة آل عمران].
- ومن السنن الثابتة: أن زوال الأمم يكون بالترف والفساد، {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ* إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ* الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ* وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ* وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ* الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ* فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ* فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ* إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [(6-14) سورة الفجر].
- ومن السنن: أن هلاك الأمم يكون بفشو الظلم وعدم إقامة العدل، قال الله تعالى: {وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ} [(11) سورة الأنبياء].
- ومن السنن: أن انهيار وزوال الأمم يكون بأجل، بمعنى لو فعلت أمة نفس ما فعلت أمة أخرى زالت وهلكت بسبب فعلها، والسبب في تأخر عقوبة الأولى هو أنه لم يأت أجلها بعد، {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} [(34) سورة الأعراف]، قال الله تعالى: {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا} [(59) سورة الكهف].
- ومن السنن: استحقاق المؤمنين لنصر الله، {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [(51) سورة غافر]، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ* إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ* وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [(171-173) سورة الصافات].
هذه بعض سنن الله في تاريخ الأمم والمتأمل في كتاب الله سيتعرف على غيرها..
ومن فوائد النظر ودراسة التاريخ وثمراته: أن التاريخ أصبح أحد الأسلحة التي تُستخدم في مجال التوجيه وصياغة الأفكار ونشر المبادئ وتأييدها، كما أنه أصبح يأخذ دوره في الصراع العقائدي بين الأمم، ومن هنا كان لابد على أبناء الأمة عموماً وشباب الصحوة خصوصاً العناية بالتاريخ والنظر في التراجم والسير.
هناك غفلة لدى كثير من المسلمين عن أعدائهم الذين يتربصون بهم الدوائر ويحيكون لهم المؤامرات وينتظرون الفرصة للقضاء عليهم.