بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الواعد الأمين، اللهمّ لا علم لنا إلا ما علَّمتنا إنَّك أنت العليم الحكيم، اللهمّ علِّمنا ما ينفعنا، وانْفعنا بما علَّمتنا، وزِدنا علمًا، وأرِنا الحقّ حقًا وارزقنا اتِّباعه، وأرِنا الباطل باطلا وارزقنا اجْتِنابه، واجْعلنا مِمَّن يستمعون القَوْل فيتَّبِعون أحْسَنَهُ، وأدْخِلنا بِرَحمتِكَ في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة المعلمون، سنتحدَّث إن شاء الله تعالى عن الطلاق الرجعي، والطلاق البائن فالطلاق الرجعي هو الذي يوقعُه الزوج على زوجته التي دخل بها حقيقة.
فعليه أن يكون دخل بالزوجة حقيقة وإلا الطلاق لا يقع، أي دخل على زوجته دخولاً حقيقيًا، أو طلّقها على مال، أو كان الطلاق مكمِّلاً للثلاث كان طلاقًا بائنًا لا رجعة فيه، معنى رجعي أي يمكن تداركهُ، يمكن أن يعود الزوج، ويرجع إلى زوجته.
الطلاق الرجعي لا يمْنعُ الاستمتاع بالزوجة، لأنّه لا يرفع عقْد الزواج يعني طلّقها في طهْرٍ لم يمسَّها فيه، لها الحقّ أن تتزيَّن وأن تتبرّج وأن تبدو بأجمل زينة، هذا كلّه من حقّها وله الحقّ أن ينظر إليها، الطلاق الرجعي لا يمنعُ الاستمتاع بالزوجة، ولا يُزيل المُلْك، ملْكُه عليها قائم ولا يؤثِّر في الحلّ، لا يحلّ عقْد الزواج، إلا أنَّه لا يترتَّب عليه أثرهُ ما دامت المطلَّقة في العدّة، ما دامت المطلّقة في الحيضات الثلاث لا يظهر أثرهُ، لا يظهر أثرهُ إلا بعد انقضاء العِدَّة، فإذا انْقضَت العِدَّة، ولم يُراجِعها بانَتْ منه بيْنونةً صغرى، إذًا الطلاق الرجعي لا يمنعُ الاستمتاع بالزوجة، وإن مات أحدهما ورثهُ الآخر، مادامت العِدَّة لمْ تنْقض، ونفقتها واجبة عليه، فما دام العدّة قائمة والزواج قائم ؛ كلّ شيء قائم.
والرجعة حقّ للزوج مدّة العِدَّة، إذا قال لها راجعتُك ومسَّ يدها، فقد راجعها، وقد أنهى هذه الطَّلْقة، وهو حقّ أثبتَهُ الشارعُ له، ولهذا لا يملك إسقاطهُ، فلو قال: لا رجعة لي كان له الحق في الرجوع، أيْ كلامه لا يقدّم ولا يؤخِّر،، ولا يغيّر من الحقوق التي ثبَّتها الله عز وجل، قال تعالى:
﴿وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ﴾
[ سورة البقرة ]
وإذا كانت الرجعة حقّا له، فلا يشترط رضا الزوجة وعلمها إن بانَت عنه ما دامتْ ضِمْن العِدَّة، علمها ورضاها لا يشترط، المقصود هو، إذا ندم على فعلته، وقال لها: راجعتكِ أو مسَّ يدها فقد راجعها فقد انتَهت الطَّلْقة.
ولا تحتاج إلى وليّ، فجعل الله الحقّ للأزواج لقول الله عز وجل:
﴿وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ﴾
[ سورة البقرة ]
وتصحّ المراجعة بالقول مثل أن يقول: راجعتك، مثل أن يضع يده على يدها وروى الشافعي: أنّ المُراجعة لا تكون إلا بالقول الصريح للقائل عليه، ولا تصحّ إلا باللّقاء.
قال أبو حنيفة: لا بأس للزَّوجة أن تتزيَّن لِزَوجها، طبعًا المطلّقة طلاقًا رجعيًّا وتتطيَّب له، وتتشوّق، وتلبس الحليّ، وتُبدي الجمال والكحل ولا يدخل عليها إلا أن تعلم بِدُخوله بِقَولٍ أو حركة من تَنَحْنُحٍ، أو خفق نعْلٍ.
الطلاق الرجعي ينقص عدد الطلقات التي يملكها الرجل على زوجته، فإن كانت الطلقة الأولى احْتَسَبَتْ، وبقيَت له طلقتان، وإن كانت له الثانية احتسبَتْ وبقِيَت له طلقة واحدة ومُراجعتها لا تمْحو الأثر، فلو طلّقها في طُهْر لم يمسَّها فيه، وبعد أسبوعين ندم على هذه التطليقة، وقال لها راجعْتُك، فما انتهى كلّ شيء، فهذه حُسِبَت طلقة ولو راجعها، لو أنّه تراجع عن هذه الطلقة حُسبَت طلقة، إنّ المراجعة لا تمحو الأثر، وهذه حكمة بالغة لكي لا يصبح الطلاق لعبًا بين الأزواج.
مثلاً، وإن كانت الثانية احْتسبَت وبقيَت له طلقة واحدة، ومراجعتها لا تمحي هذا الأثر، بل لو تركت حتى انْقضَت عِدَّتها من غير مراجعة وتزوَّجَت زوْجًا آخر، ثمَّ عادَت إلى زوجها الأوّل، عادَت إليه بما بقي لها من الطَّلقات ! فالطلقة هذه ثابتة، شيء دقيق، أنت قلتَ لها بِساعة غضب طلّقتك، وكانت في طُهْرٍ لم تمسَّها فيه، وبعد ساعةٍ ندِمت، وقلت لها راجعتك ولمسْت يدها، رجعَت واحْتُسبَت طلقةً، فلو أنَّكَ طلَّقتها طلاقًا فيه بيْنونة صغرى، وتزوَّجَتْ مكانك رجلاً آخر ثمّ طلَّقها، وعُدْت إليها بقي لك عندها طلقتان، احْتُسب الواحدة.
أما الطلاق البائن، فهو الطلاق المُكمّل للثلاث، والطلاق قبل الدخول والطلاق على المال ؛ أي مخالعة، وقبل الدخول مباشرةً ينفذ مرَّةً واحدة أو الطلاق المُكمِّل للثلاث.
والطلاق البائن ينقسم إلى بائن بَيْنونةً صُغرى، وهو ما كان دون الثلاث، وبائن بَينونة كبرى وهو المكمِّلُ للثلاث، فإذا طلَّقها في طهْرٍ لمْ يمسَّها فيه ومضَتْ عِدَّتها كاملةً ثلاث حيضات ولم يراجعها، ولم يمسَّها فهذه طلقة بانَت عنه، لكن بيْنونة صغرى، لا ترجع إليه إلا بعقْد جديد ومهْر جديد ورِضاءٍ منها، لكن لا تحتاج إلى أن تُزوَّج بغيره، هذه هي البينونة الصغرى.
الطلاق البائن بيْنونةً صغرى يُزيل قيْد الزّوْجيَّة بِمُجرّد صدوره، وإذا كان مُزيلاً للرابطة الزوجيّة، فإنّ المطلّقة تصير أجْنبيَّةً عن زوجها، فلا يحلّ له الاستمتاع بها، لا يستمتع بها إلا ضمن العِدَّة، فإذا انْقضَت العِدَّة بانَتْ عنه بيْنونةً صغرى، ولا يرثُ أحدهما الآخر إذا مات، يحلّ بالطلاق البائن موعد مؤخَّر الصداق، فنحن عندنا مهر مأجّل، ومهر معجَّل المؤجّل يحِلّ في حالتين، أيّهما أبْعَد، وأيّهما أقرب، الطلاق أو الموت وللزّوج أن يعيد المطلّقة طلاقًا بيْنونةً صغرى إلى عصمته بِعَقْدٍ ومهْرٍ جديدَيْن دون أن تتزوَّج زوجًا آخر، وإذا أعادها عادَت إليه بما بقيَ من الطَّلقات، عادَت إليه على تطليقة واحدة، أو على تطليقتين، فإذا كان طلَّقها واحدةً من قبْل، فإنّه يملك عليها طلْقتَيْن بعد العَوْدة إلى عصمتِهِ وإذا كان طلَّقها طلْقتَين لا يملك عليها إلا طلْقةً واحدة.
وأما الطلاق البائن بَيْنونةً كبرى يُزيل قَيْد الزَّوجيَّة تمامًا مثل طلاق البينونة الصغرى ويأخذ جميع أحكامه إلا أنّه لا يُحِلّ للرجل أن يعيد من أبانها بيْنونةً كبرى إلى عصمته، إلا بعد أن تنكحَ زوْجًا آخر نكاحًا صحيحًا لا لبْسَ فيه، ويدخل بها دون إرادة التحليل، فإن طلَّقها فلا تحلّ له من بعدُ حتى تنكحَ زوجًا غيره، فإن طلَّقها الطَّلقة الثالثة، فلا تحلّ لزوجها الأوّل إلا بعد أن تتزوَّج آخر، لقوله عليه الصلاة والسلام: فيما أخرجه البيهقي عن ابن عمر قال:
((سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يطلق امرأته ثلاثا فيتزوجها آخر فيغلق الباب ويرخي الستر، ثم يطلقها قبل أن يدخل بها فهل تحل للأول؟ قال: لا حتى تذوق عسيلته. وفي لفظ: حتى يجامعها ))
[ أخرجه البيهقي ]
أي حتى يتمّ الزواج الحقيقيّ، هذا فيما يتعلّق بالطلاق الرجعي والطلاق البائن البَينونة الكبرى أو الصغرى، الصغرى ربطت نفسها، وينعقد زواج جديد بِعَقد جديد، ومهر جديد، ورضاء الزوجة، أما البينونة الكبرى فلا بد من الزواج من رجل آخر زواجًا صحيحًا لا تحليل فيه، أما الطلاق الرجعي طلّقها في طهر لمْ يمسّها فيه، إن راجعها في خلال العدَّة ثلاثة أطهار رجعت له من دون عقْد ومن دون مهْر، وانتهى الأمر، ولكنّها احْتُسبَت طلقةً، ولو أنَّه طلّقها طلاقًا رجعيًا، وبانَت عنه بيْنونة صغرى، ثمّ تزوَّجَت برجل آخر، ثمّ طلّقها، فعادَت إليه عادَت إليه على طَلقتين، فالطلاق لعِبٌ بالنار، فلو قلت طلّقتك، وبعد ساعة راجعتها احْتُسِبَت طلْقة، فالأفضل، والأوْجه، والأعقل أن لا تلجأ إلى الطلاق إلا في حالات نصَّ عليها الشّرع أما أن يُتَّخَذ أداةً لِرَدع الزَّوجة فهذا لعبٌ بالنار، ويوقع الرجل في شبهة الحرام ويبقى مُشوَّشًا ومُتْعبًا، ويصبح مهدًى بالفتاوى المتناقضة التي يجمعها من عامّة الناس.